فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا}
أنْ مفسرةٌ لأنّ في الوحي معنى القولِ أي اتخذا مَباءةً: {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تسكُنون فيها وترجِعون إليها للعبادة: {واجعلوا} أنتما وقومكما: {بُيُوتِكُمْ} تلك: {قِبْلَةَ} مصلّىً وقيل: مساجدَ متوجهةً نحو القِبلة يعني الكعبةَ فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} أي فيها، أُمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهرَ عليهم الكفرةُ فيؤذوهم ويفتِنوهم عن دينهم: {وَبَشّرِ المؤمنين} بالنصرة في الدنيا إجابةً لدعوتهم والجنةِ في العقبى، وإنما ثُنِّيَ الضميرُ أولًا لأن التبوُّؤَ للقوم واتخاذَ المعابد مما يتولاه رؤساءُ القوم بتشاور، ثم جُمع لأن جعلَ البيوتِ مساجدَ والصلاةَ فيها مما يفعله كلُّ أحدٍ، ثم وُحِّد لأن بشارةَ الأمةِ وظيفةُ صاحبِ الشريعة، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِ القوم لمدحهم بالإيمان والإشعار بأنه المدارُ في التبشير. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا}
{إن} مفسرة لأن في الوحي معنى القول، ويحتمل أن تكون مصدرية؛ والتبوؤ اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ: {تبويًا}، {تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفًا، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال: تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل: تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلًا باللام فيتعدى لاثنين، وخرجت الآية على ذلك فلقومكما أحد المفعولين، وقيل: هو متعد لواحد و: {لِقَوْمِكُمَا} متعلق بمحذوف وقع حالًا من البيوت، واللام على الوجهين غير زائدة.
وقال أبو علي: هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها، والتقدير بوئا قومكما بيوتًا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة.
و{مِصْرَ} غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندًا لكان جائزًا، والجار متعلق بتبوآ وجوز أن يكون حالًا من: {بُيُوتًا} أو من قومكما أو من ضمير الفاعل في: {تبوا} أي مصلى، وقيل: مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازًا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهي مجاز عن المساجد.
واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب، وأغرب منه ما قاله العلائي: من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة، قيل: وجعل البيوت مصلى ينافيه ما في الحديث: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف، فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس وابن جبير، وقد يقال: إنه لا منافاة أصلًا بناءً على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صلاحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال: من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدًا خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلى من الأرض، وما تقدم من استقبال من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام، على أنه قد قيل: إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضًا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقيل: معنى: {بِتَابِعٍ قِبْلَةَ} متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيويتكم يقابل بعضها بعضًا: {وَإِذْ أَخَذْنَا} فيها، قيل: أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن أما لو أريد بها المساجد فلا يصح كما لا يخفى، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع: {وَبَشّرِ المؤمنين} بحصول مقصودهم، وقيل: بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولًا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور، ثم جمع ثانيًا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبًا لهم في الامتثال، ثم وحد ثالثًا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يجوز أن يكون عطفًا على جملة: {وقال موسى يا قوم} [يونس: 84]، ويجوز أن يكون عطفَ قصة على قصة، أي على مجموع الكلام السابق، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار لقصة موسى وقومه.
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومُؤَازره.
والتبَوُّؤ: اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البَوْء، أي الرجوع، كأنّ صاحب المسكن يُكلف نفسه الرجوع إلى محل سَكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك، وتقدم عند قوله تعالى: {تُبَوّئ المؤمنين مَقاعد للقتال} في [آل عمران: 121].
فمعنى {تَبَوّءا لقومكما} اجعلا قومكما متبوئينَ بيوتًا.
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تَبَوّؤ قومهما للبيوت.
والقرينة قوله: {لقومكما} إذ جعل التبوؤ لأجل القوم.
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به.
وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض (جَاسان) قرب مدينة (منفيس) قاعدة المملكة يومئذٍ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذٍ. فقيل: أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوّله وقوعُ قوله: {وأقيموا الصلاة} عقبه.
وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريبًا بإذنه.
وقيل: البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت.
وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضًا لإطلاق البيوت، وكونها بمصر.
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في (جاسان) قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج: إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيدًا بعد خروجهم.
وقوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة.
قاله ابن عطية عن ابن عباس.
والقِبلة: اسم في العربية لجهة الكعبة.
وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمرُ بني إسرائيل يومئذٍ جارياَ على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة: إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة.
وعن ابن عباس: كانت الكعبة قبلة موسى.
وعن الحسن: كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء.
وهذا التفسير يلائم تركيب: {اجعلوا بيوتكم قبلة} لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه.
وأسند فعل: {اجعلوا} إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة.
وأمْرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعًا لإبراهيم عليه السلام وأبنائه.
والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم.
وعَطْفُ جملة: {وبشر المؤمنين} على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا: {ربنا لا تجعلنا فتنة} [يونس: 85] فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} [يونس: 83] وفي قوله: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا} [يونس: 84، 85]. اهـ.